الجمعة، ١٠ كانون الثاني/يناير ٢٠٢٠
نحو لبنان أكثر عدالة: مطالب انتفاضة تشرين، خارطة طريق نحو الدولة الحُلم
ناصر ياسين
Op-Ed picture

حدَّدت الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الماضي العناوين السياسية الأساسية لسنة ٢٠٢٠ وللمراحل القادمة في لبنان، مع دخول الجمهورية الصغيرة في احتفالية المئوية الأولى لتأسيسها. فانتفاضة اللبنانيين في تشرين الأول/أكتوبر ليست لحظة احتجاج عابرة في تاريخ لبنان، بل هي مِفصل من المفاصل الهامّة التي استطاعت أن تهزّ التوازنات التي شُيِّدت، في النص وكذلك في الممارسة السياسية، منذ اتفاق الطائف في ١٩٨٩ والتي أعيد تشكيلها في اتفاق الدوحة عام ٢٠٠٨. فعلى وقع غضب الناس الصادق وعفويّة حراكهم العابر للطوائف والمناطق والنابع من رفضهم للفشل المتفاقم في إدارة الدولة ومؤسساتها، حدَّد المنتفضون منذ ٨٦ يومًا جُملة مطالب يبدو أساسها الحاجة إلى تغيير طرق إدارة الدولة وفي الممارسة السياسية وما ينتج عنهما من سياسات عامّة منذ ما بعد انتهاء الحرب الأهلية، لكن في جوهر هذه المطالب تتّضح الحاجة إلى العبور إلى دولة أكثر عدالة.

برز التصويب عند المنتفضين ضد مكوّنات السلطة مجتمعة والتي عملت لعقود متتالية بالتكافل والتضامن والتعطيل المتبادل وفشلت في تحقيق الصالح العام مفضّلة مصالحها الخاصة تارة عبر الاستغلال الفاضح للسلطة لإثراء أنفسهم وأقاربهم - والأمثلة كثيرة هنا - وطوراً عبر تسخير الموقع الرسمي من أجل زيادة الرأسمال السياسي/الطائفي. ويطال الرفض القاطع للمنتفضين في تشرين النهج الذي اعتمده (ولا يزال) زعماء لا يزيدون عن عدد أصابع اليدين في بناء مشروعيتهم عبر الإيحاء بقدرتهم على حماية جماعاتهم، فنراهم يبرعون في تشييد جدران الخوف من جماعات أخرى حيث التوجّس من الآخر هو من أسس بناء مخيّلة الجماعة. فيصبح معيار الريادة عند الزعيم هو تظهير "قوّته" في تأمين مصالح الجماعة وحمايتها. وفي المقابل، أبدت هذه الجماعات مرونة كبيرة في درجة تقبلها لفساد الزعيم وفساد حلقته ومعاونيه، ومنحته غطاءً واسعًا للفشل في إدارة الدولة وتقديم الخدمة العامّة.

 

لعلّ مشروعية زعماء الطوائف المبنية على دورهم في حماية جماعاتهم ليست جديدة وأسبابها التاريخية تسبق وجود لبنان الكبير، لكنّ الاستخدام المقيت للطائفية لحماية الفاسدين وتطبيع الفساد أدّى إلى فورة الانتقادات.  فكان للفساد المحمي طائفيًا حصّة الأسد في احتجاجات المنتفضين وفي تصوبيهم على مكامنه في قطاعات استنزفت المال العام ونهبته كالطاقة والبناء والاتصالات والبيئة وغيرها. وزاد من حدّة المنتفضين وغضبهم تماهي أكثرية من في السلطة معهم في موضوع الفساد، فنراهم يتبارون في الإعلان عن أهمية محاربته وهم في أغلبيتهم من مغذّي شبكاته ومستفيدين منها.

يتوازى مطلب محاربة الفساد من قبل المنتفضين مع نقدهم السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي اتُّبعت منذ قبل التسعينيات وتعمّقت أكثر بعد الطائف والتي يجسّدها تراخي الدولة في لعب دورها في تحفيز بناء اقتصاد منتج مما أدى إلى تنامي الاقتصاد الريعي وتشجيع الاحتكار، التي وإن نجحت في رفع معدّلات النموّ الاقتصادي في فترات معيّنة خلال العقود الثلاث الماضية، شكَّلت فقاعات مرحليّة لفترة زمنية محدّدة عمّقت أكثر وأكثر مستوى الفوارق الاجتماعية والمناطقية، إذّ يقدّر أنَّ ٥٠٪ من السكّان يتقاسمون ٥٪  فقط من ثروة البلاد، و١٠٪ يتقاسمون ٧٠ ٪، و١٪ فقط يتقاسمون نسبة ٣٥٪، مما يضع لبنان بين أعلى المستويّات في التوزيع غير المتساوي للثروة في العالم.

 

هذه النيوليبرالية الفاقعة تظهر من خلال غياب أولوية العدالة الاجتماعية في نهج الدولة وعدم تبني سياسات اجتماعية متكاملة تُبقي التقديمات الاجتماعية مجزّأة ومرتبطة بالحاجة وليس ضمن مقاربة حقوقية للحماية الاجتماعية كحق مكتسب للمواطنين والمواطنات. وهذه المقاربة "المفتوحة" لا تنبع من حرص الذين تعاقبوا في الحكم على المال العام، الذي يصرف كثيرًا على الرعاية الصحية والاجتماعية، بل من استخدامهم لهذه التقديمات في سبيل تعزيز أدوارهم ككفلاء ومحتكري رعاية جماعاتهم. فالولوج إلى خدمات الدولة، بحسب هذا النهج، لا يجب ان يحدث إلا من خلال زعماء الجماعات وناظمي شبكاتهم الطائفية. 

 

لعلّ الناظر في مطالب انتفاضة تشرين يلخّصها بالدعوة إلى الإصلاح وبأفكارها المتقدمة حول طريقة إدارة الدولة، لكن عندما يتعمّق أكثر فيها يراها تؤسس لإعادة النظر في "صيغة الدولة"، كما قال الراحل سمير فرنجية، في صيف الـ ٢٠٠٨ في مجلس النواب في غرض مناقشته بيان الحكومة الجديدة التي انبثقت بعد اتفاق الدوحة الذي أعاد تجديد توازنات الطائف وتأجيل حلّ الخلافات المستعصية. إن مقاربة "صيغة الدولة" في مطالب المنتفضين لا يجب اختصارها بالزمان والمكان كاحتجاج عابر على إدارة الشأن العام ومؤسساته بل هي محاولة شعبية لإعادة تأسيس الدولة وإعادة النظر في العقد الاجتماعي. وعلى رأس هذا التأسيس المرجو هو العبور نحو دولة مدنية تكون المرجعية التي تحدِّد وترعى العدالة في المجتمع.

 

إن مقاربة شكل الدولة الحلم في سياقات تحقيق المساواة في المجتمع اللبناني تستوجب العمل على مشروع سياسي واضح من المجموعات المشاركة في "انتفاضة تشرين" هدفه إعادة إنتاج السلطة عبر برامج سياسية بدأت بالتبلور العضوي وإن لا زالت غير مكتملة، والانتقال إلى عمل قاعدي يساهم في بناء مشروعية بدأت هذه المجموعات باكتسابها عبر قربهم من الناس وفهمهم لحاجاتهم ومزاجهم. وثم الانتقال إلى المشاركة السياسية عبر انتخابات نيابية مبكّرة على أساس قانون انتخابي يُحسِّن صحّة التمثيل يجرى إعداده بطريقة تشاركية مع مكونات المجتمع كافة.

 

في موازاة إعادة إنتاج السلطة وجب العمل الجدي على إلغاء الطائفية السياسية، وهي خطوة مؤجل تنفيذها منذ التسعينات، كمرحلة أولى في عملية العبور إلى الدولة المدنية العادلة القائمة على أسس المساواة. وتنصّ المادة ٩٥ من الدستور على إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية، ومن ثم إلغاء "قاعدة التمثيل الطائفي و{اعتماد} الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامّة والمختلطة وفقًا لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى". أما تعزيز استقلالية القضاء عن السلطة السياسية فهو مدخل أساسي لمحاربة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة ووقف الإثراء غير المشروع، وبالطبع تحقيق المساواة في المجتمع.

 

ثم تأتي خطوات توازي أهمية النقاط المذكورة أعلاه خاصةً ان لبنان يسير نحو أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة نتيجة الفشل في إدارة الدولة، وهي بالطبع ليست شاملة أو كاملة ولكنها تشكّل عناصر لخارطة طريق للتغيير:

  • تفعيل دور الدولة في إعادة توزيع الثروات خاصةً عبر سياسيات وإجراءات ضريبية عادلة عمادها التصاعدية تعتمد على وضع ضرائب على الأرباح والدخل والعقارات المبنية غير المشغولة.
  • بناء اقتصاد مُنتج عبر سياسات اقتصادية ونقدية جديدة تضع نصب أعينها مصلحة الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، محفّزة خلق فرص العمل ضمن اقتصاد جديد يعتمد على المعرفة والابتكار عند اللبنانيين المقيمين وكذلك المغتربين.
  • إصلاح السياسات الاجتماعية ضمن نهج حقوقي يحترم الحقوق الاجتماعية، ومن ضمنها الحق في التعليم والحق في الرعاية الصحية وغيرها من الحقوق الإنسانية الأساسية، لجميع المواطنين والمواطنات وكذلك للمقيمين في لبنان من مهاجرين ولاجئين ومكتومي القيد.
  • تعزيز المساواة الكاملة بين الجنسين وإلغاء القوانين التي تميّز المرأة اللبنانية عن الرجل كإعطاء الجنسية وقضايا الطلاق والميراث وغيرها.
  • إطلاق سياسات إصلاحية للبيئة الطبيعية والعمرانية توقف التدهور البيئي والتلوث الذي أصبح قاتلاً للبنانيين. والعمل على سياسات جديدة للتخطيط العمراني ترى الحق في السكن اللائق كإحدى الحقوق الانسانية التي وجب العمل على تحقيقها.

ناصر ياسين، مدير معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية بالوكالة

Previous Op-Eds:
Towards a New Economic Model for Lebanon

Khalil Gebara

Four Actions the Next Lebanese Government Should Take in the First 100 Days to Regain Trust
Sami Mahroum

Where is the Environment in the Midst of the Uprising?
Nadim Farajalla and Rana El Hajj

Prince Charming Is Not Coming and It May Be for the Better
Mona Fawaz

Towards Bilateral Nuclear Talks in the Gulf Region

Nour Eid

Infrastructure Investments as a Driver of Economic Growth: What Can Lebanon Learn?

Jamal Saghir

 



Academia, the Public, and Policy-making in Lebanon: Bridging the Gap
Rayan El Amine

In the Era of Post-Truth: Fighting Myths and Fallacies with Facts and Figures

Nasser Yassin

Unfinished Business:
Public Utilities and Regulatory Reform in Lebanon in light of CEDRE

Jamal Saghir

Lebanese Women: From University to the Work Place 
Sara Abdel Latif and Fida Alameddine

Is Lebanon Ready for Beijing Plus 25? A Critical Process and a Need for Strong Feminist Voices 

Lina Abou Habib


Civil Society Actors’ Downhill Struggle: Preserving the Lebanese Coast 

Alexi Touma


Dams or no dams? The answer lies in a National Water Security Strategy 
Rana El-Hajj

Empowering Women in Power
Lory Kantarjian


Alternative Pathways towards the Education of Syrian Refugees inLebanon

Hana Addam El-Ghali


The need for policies to restore the role of land in the making of a livable city 
Mona Fawaz and Dounia Salamé

Lebanon’s water resources are polluted: Who’s to blame? What can be done? 
Nadim Farajalla

If not now, when? The urgent need for a national dialogue on energy in Lebanon 
Ali Ahmad
مقالات سابقة:
نحو نموذج اقتصادي جديد للبنان
خليل جبارة

لماذا نحتاج إلى خطّة طوارئ لإنقاذ قطاع الطاقة في لبنان؟
مارك أيوب

كيف تُستعاد الثقة في ١٠٠ يوم؟ أربعة إجراءات على الحكومة اللّبنانية المُقبلة اتّخاذها
سامي محروم

ثورة ١٧ تشرين الأوّل: مستوياتها وانحيازاتها
زياد الصائغ

#تسقط – بس! لبنان في الجولة الثانية من الانتفاضات العربيّة
فاطمة الموسوي

حادثة الواتس آب وانتفاضة الشباب

عدنان الأمين

الانتفاضة الشعبية والاقتصاد السياسي لقطاع الطاقة في لبنان: كيف وصلنا إلى هنا؟
علي أحمد

أين البيئة في خضم الانتفاضة اللّبنانيّة؟

نديم فرج الله ورنا الحاج

تأملات في انتفاضة تشرين اللّبنانية
ناصر ياسين

عفوًا أيها القانون! هل تخترق الحركة النسائية في لبنان "حضانة" المؤسسة الدينية؟
فاطمة الموسوي

مُساهمة صندوق الضمان وصناديق التقاعد في تمويل مشاريع الكهرباء:فرصة أم مخاطرة؟
مارك أيوب

الأحوال الشخصية في لبنان: فضاء عصيّ على الدولة والقانون
منار زعيتر

الاستثمار في البنية التحتيّة كمحرّك للنموّ الاقتصادي: ما الذي يمكن أن يستخلِصُه لبنان؟
جمال الصغير

تقريب المسافات بين األكاديميين وصانعي السياسات في لبنان
ريان الأمين

في عصر "ما بعد الحقيقة": مواجهة الخرافات والمغالطات حول أزمة اللّاجئين بالأرقام والحقائق
ناصر ياسين

ربيعٌ متأخّر أو مصائرُ متشابهة؟ انتفاضتا السودان والجزائر عند مفارق طرق
فاطمة الموسوي وألكسي توما


"سيدر" وإصلاح المرافق العامّة في لبنان: الحقيقة الصعبة

جمال الصغير


عن غياب الشمولية في "سيدر" و"رؤية ماكينزي" اقتراحات لتصويب النقاش حول موازنة ٢٠١٩

مارك أيوب


الأونروا أزمة موازنة أم خطر على الهويّة؟ 

زياد الصائغ

العنف السياسي في لبنان بين "مكافحة الإرهاب" و"منع التطرّف العنيف"

ردينة البعلبكي وسارة عبد اللطيف


أشخاص من دون هويّة: ظاهِرة الحرمان من الجنسيّة في لبنان وكيفيّة مُعالجتها

أسيل جمّال

البحث في السياسات العامة: بين الواقعية حتى التواضع وبين الالتزام الأخلاقي حتى حدود المناصرة دفاعًا عن حقوق الناس

طارق متري

الحاجة لسياسات تمنح الأولوية للقيمة الاجتماعية للأراضي في لبنان
منى فواز ودنيا سلامة

أي أطر للعلاقات اللبنانية-السورية في العام ٢٠١٩؟
ردينة البعلبكي

تشريعات تعيق المُواطَنة؟ أهمية إقرار قانون يكفل حقّ النساء اللبنانيات بمنح الجنسية لأُسرهنّ
فاطِمة الموسوي

نحو استراتيجيّة وطنيّة متعدّدة الجوانب لمعالجة قضيّة اللّجوء السوري في لبنان
ناصر ياسين
Facebook
Twitter
YouTube
Website
Email
Soundcloud
RSS

AUB - P.O. Box: 11-0236, Riad El Solh, Beirut, Lebanon


Unsubscribe from all mailings Unsubscribe |